إِنَّ الْحَمْدَ للهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ, وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هَا هِيَ أَيَّامُ رَمَضَانَ قَدِ انْقَضَتْ، وَلَيَالِيهِ قَدْ رَحَلَتْ، انْقَضَى رَمَضَانُ وَذَهَبَ لِيَعُودَ فِي عَامٍ قَادِمٍ، انْقَضَى شَهْرُ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ، شَهْرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، شَهْرُ الْعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ، انْقَضَى رَمَضَانُ وَكَأَنَّهُ مَا كَانَ، كَانَ فِيهِ الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ، وَالذِّكْرُ وَتِلاَوَةُ الْقُرْآنِ, وَالصَّدَقَةُ وَالْقِيَامُ, وَالإِحْسَانُ وَصِلَةُ الأَرْحَامِ، وَحَلاَوَةُ الإِيمَانِ, وَلَذَّةُ الدَّمْعَةِ، وَحَلاَوَةُ الْمُنَاجَاةِ فِي الأَسْحَارِ.
لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مَيْدَاناً يَتَنَافَسُ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ، وَيَتَسَابَقُ فِيهِ الْمُتَسَابِقُونَ، وَيُحْسِنُ فِيهِ الْمُحْسِنُونَ، تَرَبَّتْ فِيهِ النُّفُوسُ عَلَى فَضَائِلِ الأَعْمَالِ، وَتَعَالَتْ عَنْ سَفَاسِفِ الأُمُورِ، وَاكْتَسَبَتْ فِيهِ كُلَّ خَيْرٍ وَهُدًى، وَمِسْكِينٌ ذَاكَ الَّذِي أَدْرَكَ هَذَا الشَّهْرَ وَلَمْ يَظْفَرْ مِنْ مَغَانِمِهِ بِشَيْءٍ، مَا حَجَبَهُ إِلاَّ الإِهْمَالُ وَالْكَسَلُ، وَالتَّسْوِيفُ وَطُولُ الأَمَلِ.
وَالسُّؤَالُ الَّذِي يَطْرَحُ نَفْسَهُ: مَاذَا بَعْدَ شَهْرِ الصِّيَامِ؟ مَاذَا بَعْدَ شَهْرِ الْقِيَامِ؟ مَاذَا بَعْدَ شَهْرِ الْقُرْآنِ؟.
إِخْوَةَ الإِيمَانِ: إِنَّ رَبَّ رَمَضَانَ هُوَ رَبُّ شَوَّالٍ وَبَقِيَّةِ الشُّهُورِ، وَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُدَاوِمُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي كُلِّ أَيَّامِ الْعَامِ، فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ عَنْ عَلْقَمَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ: كَيْفَ كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئاً مِنَ الأَيَّامِ؟ قَالَتْ: لاَ، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَطِيعُ؟!» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].
وَمَعْنَى قَوْلِهَا: (كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً) أَيْ: يُدَاوِمُ عَلَيْهِ وَلاَ يَقْطَعُهُ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبْدَ اللَّهِ: لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي الأَيَّامِ الْقَلِيلَةِ الْمَاضِيَةِ كُنَّا فِي شَهْرِ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، شَهْرِ مُضَاعَفَةِ الأَعْمَالِ وَالْحَسَنَاتِ، نَصُومُ نَهَارَهُ، وَنَقُومُ مَا تَيَسَّرَ مِنْ لَيْلِهِ، وَنَتَقَرَّبُ إِلَى رَبِّنَا سُبْحَانَهُ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَهَجْرِ الْمُبَاحِ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَتَرْكِ السَّيِّئَاتِ وَالْمُوبِقَاتِ، ثُمَّ مَضَتْ تِلْكَ الأَيَّامُ وَقَطَعْنَا بِهَا مَرْحَلَةً مِنْ مَرَاحِلِ الْعُمُرِ، وَالْعَمَلُ بِالْخِتَامِ، فَمَنْ أَحْسَنَ فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَلْيُوَاصِلِ الإِحْسَانَ، وَمَنْ أَسَاءَ فَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ وَلْيُصْلِحِ الْعَمَلَ مَا دَامَ فِي وَقْتِ الإِمْكَانِ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لاَ يُحِبُّ، وَلاَ يُعْطِي الدِّينَ إِلاَّ لِمَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ فَتَحَ لَهُ بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ بَابَ عَمَلٍ صَالِحٍ يَهْدِيهِ إِلَيْهِ، وَيُيَسِّرُهُ عَلَيْهِ، وَيُحَبِّبُهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَتَوَفَّاهُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ امْرِئٍ يُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ؛ فَعَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَسْنَدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِلَى صَدْرِي فَقَالَ: «مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» -قَالَ حَسَنٌ-: ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ]. فَالْزَمُوا مَا هَدَاكُمُ اللهُ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَاحْذَرُوا الرُّجُوعَ إِلَى الْمُنْكَرَاتِ وَالْقَبَائِحِ، فَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ مُنْتَهًى مِنَ الْعِبَادَةِ دُونَ الْمَوْتِ؛ قَالَ تَعَالَى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99].
عِبَادَ اللهِ: مِنْ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ نَقُولُ لِمَنْ كَانَ قَبْلَ رَمَضَانَ فِي إِعْرَاضٍ وَغَفْلَةٍ، فَلَمَّا أَقْبَلَ رَمَضَانُ أَقْبَلُوا عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، صَامُوا وَقَامُوا، قَرَأُوا الْقُرْآنَ وَتَصَدَّقُوا، وَدَمَعَتْ عُيُونُهُمْ، وَخَشَعَتْ قُلُوبُهُمْ، وَلَكِنْ، مَا إِنْ وَلَّى رَمَضَانُ حَتَّى عَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، عَادُوا إِلَى غَفْلَتِهِمْ، عَادُوا إِلَى ذُنُوبِهِمْ، فَلِهَؤُلاَءِ نَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ رَمَضَانَ فَإِنَّ رَمَضَانَ قَدِ انْقَضَى وَمَضَى، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، يَا مَنْ عُدْتَ إِلَى ذُنُوبِكَ وَمَعَاصِيكَ، إِنَّ الَّذِي أَمَرَكَ بِالْعِبَادَةِ فِي رَمَضَانَ هُوَ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، يَا عَبْدَ اللهِ! كَيْفَ تَعُودُ إِلَى السَّيِّئَاتِ وَقَدْ طَهَّرَكَ اللهُ مِنْهَا؟! كَيْفَ تَعُودُ إِلَى الْمَعَاصِي وَقَدْ مَحَاهَا اللهُ مِنْ صَحِيفَتِكَ؟! أَيُعْتِقُكَ اللهُ مِنَ النَّارِ فَتَعُودُ إِلَيْهَا؟! أَيُبَيِّضُ اللهُ صَحِيفَتَكَ مِنَ الأَوْزَارِ وَأَنْتَ تُسَوِّدُهَا؟!.
يَا مَنِ اعْتَادَ الصَّلاَةَ مَعَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، كَيْفَ تَعُودُ إِلَى سَبِيلِ الْمُنَافِقِينَ؟! وَيَا مَنْ صَامَ لِسَانُهُ فِي رَمَضَانَ عَنِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْكَذِبِ: وَاصِلْ مَسِيرَتَكَ، وَجِدَّ فِي الطَّلَبِ، يَا مَنْ صَامَتْ عَيْنُهُ فِي رَمَضَانَ عَنِ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ غُضَّ طَرْفَكَ مَا بَقِيتَ: يُورِثِ اللهُ قَلْبَكَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ مَا حَيِيتَ.
وَيَا مَنْ صَامَتْ أُذُنُهُ فِي رَمَضَانَ عَنْ سَمَاعِ الْحَرَامِ مِنْ غِيبَةٍ أَوْ نَمِيمَةٍ أَوْ غِنَاءٍ: اتَّقِ اللهَ، وَلاَ تَعُدْ إِلَى مَعْصِيَتِهِ، وَيَا مَنْ صَامَ بَطْنُهُ فِي رَمَضَانَ عَنِ الطَّعَامِ، إِيَّاكَ وَأَكْلَ الْحَرَامِ، ثُمَّ إِيَّاكَ إِيَّاكَ وَأَكْلَ الرِّبَا؛ فَإِنَّ آكِلَهُ مُحَارِبٌ للهِ وَلِرَسُولِهِ، فَهَلْ تُطِيقَ ذَلِكَ؟!.
يَا مَنْ كُنْتَ تَصُومُ مَعَ الصَّائِمِينَ، وَتَقُومُ مَعَ الْقَائِمِينَ، إِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً، وَتَذَكَّرْ أَخِي (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11] فَغَيِّرْ مِنْ حَالِكَ، وَتُبْ مِنْ ذُنُوبِكَ، وَأَقْبِلْ عَلَى رَبِّكَ؛ فَإِنَّكَ وَاللهِ لاَ تَدْرِي مَتَى تَمُوتُ؟ لاَ تَدْرِي مَتَّى تُغَادِرُ هَذِهِ الدُّنْيَا؟
قَالَ اللهُ تَعَالَى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99 - 100].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَا لَهَا مِنْ خَسَارَةٍ عَظِيمَةٍ، وَمُصِيبَةٍ كَبِيرَةٍ!! وَيَا لَهَا مِنْ عُقُوبَةٍ أَلِيمَةٍ لِمَنْ فَاتَهُ رَمَضَانُ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ!! فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ لَهُ: «وَمَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِينْ، فَقُلْتُ: آمِينْ» [رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه]، فَهَذَا هُوَ الصَّادِقُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فِيهِ، وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَدَعَا عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، وَأَمَّنَ عَلَى دُعَائِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَكَمْ هُمُ الَّذِينِ لاَ يُصَلُّونَ إِلاَّ فِي رَمَضَانَ، وَكَمْ هُمُ الَّذِينَ لاَ يَتْلُونَ الْقُرْآنَ إِلاَّ فِي رَمَضَانَ! ثُمَّ هَجَرُوا الْمَسَاجِدَ وَالْقُرْآنَ، وَارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ، وَنَكَصُوا عَلَى أَعْقَباِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ رَبُّ كُلِّ الشُّهُورِ وَالأَعْوَامِ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْعَمَى بَعْدَ الْبَصِيرَةِ، وَنَعُوذُ بِهِ مِنَ الرِّدَّةِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ، وَمِنَ الاِنْتِكَاسَةِ بَعْدَ الاِسْتِقَامَةِ.
أَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَجَعَلَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ وَهُوَ الْمُرْتَجَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) [طه:5 - 6] ،وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ بِآثَارِهِمُ اقْتَدَى.
أَمَّا بَعْدُ : فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - حَقَّ التَّقْوَى، وَرَاقِبُوا رَبَّكُمْ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى.
إِخْوَةَ الإِسْلاَمِ وَالإِيمَانِ: كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَحْمِلُونَ هَمَّ قَبُولِ الْعَمَلِ أَكْثَرَ مِنَ الْعَمَلِ نَفْسِهِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الآيَةِ:(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون:60]، فَقُلْتُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟، قَالَ: «لاَ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وهم لها سابقون» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ]، هَذِهِ هِيَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: يُعْطُونَ الْعَطَاءَ مِنْ زَكَاةٍ وَصَدَقَةٍ، وَيَتَقَرَّبُونَ بِأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ: مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ تُقْبَلَ مِنْهُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: كُونُوا لِقَبُولِ الْعَمَلِ أَشَدَّ اهْتِمَاماً مِنَ الْعَمَلِ؛ أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)؟! [المائدة:27].
فَمَنْ مِنَّا شَغَلَهُ هَذَا الْهَاجِسُ: قَبُولُ الْعَمَلِ أَوْ رَدُّهُ, فِي هَذِهِ الأَيَّامِ؟! وَمَنْ مِنَّا لَهَجَ لِسَانُهُ بِالدُّعَاءِ أَنْ يَتَقَبَّلَ اللهُ مِنْهُ رَمَضَانَ؟ فَلَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ شَهْرَ رَمَضَانَ, ثُمَّ يَدْعُونَ اللهَ سِتَّةَ أَشْهُرِ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمْ، نَسْأَلَ اللهُ تَعَالَى أَنْ نَكَونَ مِنْ هَؤْلاَءِ الْفَائِزِينَ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ عَلاَمَاتِ قَبُولِ الْعَمَلِ: الْحَسَنَةَ بَعْدَ الْحَسَنَةِ، فَإِتْيَانُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ رَمَضَانَ بِالطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا: دَلِيلٌ عَلَى رِضَى اللهِ تَعَالَى عَنِ الْعَبْدِ, وَإِذَا رَضِيَ اللهُ عَنِ الْعَبْدِ وَفَّقَهُ إِلَى عَمَلِ الطَّاعَةِ وَتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، فَأَتْبِعُوا الْحَسَنَاتِ بِالْحَسَنَاتِ: تَكُنْ عَلاَمَةً عَلَى قَبُولِهَا، وَتَكْمِيلاً لَهَا، وَتَوطِيناً لِلنَّفْسِ عَلَيْهَا، حَتَّى تُصْبِحَ مِنْ سَجَايَاكُمْ، وَكَرِيمِ خِصَالِكُمْ، وَأَتْبِعُوا السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ: تَكُنْ كَفَارَةً لَهَا، وَوِقَايَةً مِنْ خَطَرِهَا وَضَرَرِهَا: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود:114].
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ].
وَمِنْ عَلاَمَاتِ الْقَبُولِ أَيْضاً: انْشِرَاحُ الصَّدْرِ لِلْعِبَادَةِ، وَالشُّعُورُ بِلَذَّةِ الطَّاعَةِ وَحَلاَوَةِ الإِيمَانِ، وَالْفَرَحُ بِتَقْدِيمِ الْخَيْرِ؛ حَيْثُ إِنَّ الْمُؤْمِنَ هُوَ الَّذِي تَسُرُّهُ حَسَنَتُهُ وَتَسُوءُهُ سَيِّئَتُهُ.
وَمِنْ عَلاَمَاتِ الْقَبُولِ: التَّوْبَةُ مِنَ الذُّنُوبِ الْمَاضِيَةِ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْعَلاَمَاتِ الدَّالَةِ عَلَى رِضَى اللهِ تَعَالَى.
وَأَيْضاً: الْخَوْفُ مِنْ عَدَمِ قَبُولِ الأَعْمَالِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ، وَالْغَيْرَةُ لِلدِّينِ، وَالْغَضَبُ إِذَا انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُ اللهِ، وَالْعَمَلُ لِلإِسْلاَمِ بِصِدْقٍ، وَبَذْلُ الْجُهْدِ وَالْمَالِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
إِخْوَةَ الإِيمَانِ: إِنَّ مِمَّا شَرَعَهُ اللهُ لَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، إِتْبَاعَ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِصَوْمِ سِتَّةٍ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ؛ فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ».
يَعْنِي: فِي الأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَالْمُضَاعَفَةِ، فَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَاحْرِصُوا رَحِمَكُمُ اللهُ عَلَى صِيَامِ هَذِهِ الأَيَّامِ السِّتَّةِ؛ لِتَظْفَرُوا بِهَذَا الثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ مِنْ رَمَضَانَ، فَلْيُبَادِرْ بِالْقَضَاءِ، ثُمَّ يُتْبِعْهُ سِتّاً مِنْ شَوَّالٍ، فَاعْمَلُوا -يَا رَعَاكُمُ اللهُ- الْخَيْرَاتِ، وَاجْتَنِبُوا الْمُنْكَرَاتِ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ: تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوُا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانَاً.
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى إِمَامِ المُرْسَلِينَ، وَقَائِدِ الغُرِّ المُحَجَّلِينَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاةِ وَالسَّلامِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيمًا {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلَّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ، فِي العَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنْ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعًا مَرْحُومًا، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقًا مَعْصُومًا، وَلا تَدَعْ فِينَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُومًا. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُؤْمِنِينَ وَجُنْدَكَ الْمُوَحِّدِينَ.