موقع الشيخ عبدالغفار العماوي

أدعو إلى الله على بصيرة

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

شهر الله المحرم ويوم عاشوراء| خطبة الجمعة مكتوبة

 الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، وَجَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شَكُورًا، أَحْمَدُ رَبِّي سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوّاً كَبِيرًا، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلِيلُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيراً.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ؛ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطَّلَاقِ:2-3].

أَيُّهَا الـمُسْلِمُونَ: لَقَدْ خَلَقَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الزَّمَانَ، وَاخْتَارَ سُبْحَانَهُ مِنَ الزَّمَانِ أَوْقَاتًا فَخَصَّهَا بِمَزِيدِ تَكْرِيمٍ، وَحَفَّهَا بِزِيَادَةِ تَعْظِيمٍ، فَرَفَعَ مِنْ بَيْنِ الأَزْمِنَةِ قَدْرَهَا، وَأَعْلَى لَهَا عَلَى غَيْرِهَا ذِكْرَهَا، فَعَشْرُ ذِي الحِجَّةِ أَفْضَلُ الأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ، وَيَوْمُ النَّحْرِ أَعْظَمُ الأَيَّامِ عِنْدَهُ جَلَّ فِي عُلَاهُ، وَيَوْمُ الجُمُعَةِ خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ شَمْسُ الدُّنْيَا، وَلَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ عِبَادَةً وَأَجْرًا، وَاخْتَصَّ اللهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - هَذِهِ الأُمَّةَ بِأَزْمِنَةٍ خَيِّرَةٍ كَامِلَةٍ، وَأَيَّامٍ وَلَيَالٍ مُبَارَكَةٍ فَاضِلَةٍ، وَالشُّهُورُ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا اخْتَصَّ مِنْهَا أَرْبَعَةً؛ فَجَعَلَهُنَّ حُرُمًا، وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ، وَالعَمَلَ الصَّالِحَ وَالأَجْرَ أَكْرَمَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة:36]

وَهَذِهِ الأَرْبَعَةُ الحُرُمُ مِنَ الزَّمَانِ؛ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ أَوْضَحَ بَيَانٍ؛ فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ: الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].

وَقَدْ تَلَاعَبَ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ بِالأَشْهُرِ الحُرُمِ زِيَادَةً وَنُقْصَانًا، تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: النَّسِيءَ، فَقَالَ: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )[التوبة:37].

إِخْوَةَ الإِيمَانِ: لَقَدْ نَهَى رَبُّنَا - عَزَّ وَجَلَّ - عَنِ الظُّلْمِ فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ، تَشْرِيفًا لَهَا وَتَعْظِيمًا، وَإِعْزَازًا لِشَأْنِهَا وَتَكْرِيمًا، فَقَالَ تَعَالَى: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ )[التوبة:36]. 

أَلَا وَإِنَّ شَهْرَ اللهِ المُحَرَّمَ هُوَ أَحَدُ الأَشْهُرِ الأَرْبَعَةِ الحُرُمِ ذَاتِ القَدْرِ المُنِيفِ، وَهُوَ شَهْرٌ أَضَافَهُ اللهُ إِلَيْهِ إِضَافَةَ تَكْرِيمٍ وَتَشْرِيفٍ، وَقَدِ اصْطَفَاهُ مِنَ الأَشْهُرِ الحُرُمِ، فَجَعَلَهُ سُبْحَانَهُ مِمَّا حَرَّمَ وَعَظَّمَ، وَعَلَى العَبْدِ المُؤْمِنِ أَنْ يُرَاعِيَ - فِي هَذَا الشَّهْرِ الحَرَامِ - أُمُورًا وَأَحْكَامًا، وَيَجْتَنِبَ أَخْطَاءً وَآثَامًا، فَمِنْهَا: الْتِزَامُ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى، قَالَ سُبْحَانَهُ: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ )[النساء:13-14]، فَلَا يَجْتَرِئُ عَلَى انْتِهَاكِهَا وَتَعَدِّيهَا، وَلَا يَقْتَرِبُ مِنْهَا لِئَلَّا يَقَعَ فِيهَا، حَيْثُ إِنَّ الْتِزَامَ حُدُودِ اللهِ وَعَدَمَ تَعَدِّيهَا دَلِيلٌ عَلَى تَقْوَى القُلُوبِ وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللهِ فِيهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ )[الحج:32].

 وَمِنْهَا أَيْضًا: إِقَامَةُ فَرَائِضِ اللهِ تَعَالَى: مِنَ العِنَايَةِ بِالعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ وَتَرْكِ مَا يُضَادُّهَا، وَإِقَامَةِ شَعَائِرِ اللهِ وَاجْتِنَابِ مَا يُحَادُّهَا، وَالقِيَامِ بِالعِبَادَاتِ البَدَنِيَّةِ وَالقَلْبِيَّةِ، وَالْتِزَامِ سَائِرِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المزمل:20].

 وَمِنْهَا: اجْتِنَابُ مَا حَرَّمَ اللهُ؛ مِنَ الرِّبَا وَالزِّنَا، وَأَكْلِ الحَرَامِ وَالغِنَاءِ، وَالْكَذِبِ وَالغِشِّ وَالزُّورِ، وَالخِيَانَةِ وَسَائِرِ الآثَامِ وَالشُّرُورِ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الأَزْمِنَةِ، وَإِنَّ مِنْ تَعْظِيمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الأَشْهُرَ الحُرُمَ: أَنْ نَهَانَا عَنِ اِنْتِهَاكِ حُرْمَتِهَا، وَإِخْفَارِ ذِمَّتِهَا، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ) [المائدة:2].

 قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ رَحِمَهُ اللهُ: «شَعَائِرُ اللَّهِ: جَمِيعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ».

وَمِمَّا عَلَى العَبْدِ أَنْ يُرَاعِيَهُ - أَيْضًا - فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ خَاصَّةً وَفِي غَيْرِهِ عَامَّةً: أَنْ يُؤَدِّيَ الحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا، وَأَنْ يَرُدَّ المَظَالِمَ إِلَى أَصْحَابِهَا؛ كَحُقُوقِ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، وَالأَبْنَاءِ وَالبَنَاتِ، وَحُقُوقِ الإِخْوَانِ وَالجِيرَانِ، وَالشُّرَكَاءِ وَالأُجَرَاءِ وَأَهْلِ الإِيمَانِ، وَسَائِرِ أَصْحَابِ المِلَلِ وَالأَدْيَانِ؛ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَاللَّهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].

عِبَادَ اللهِ: وَلَمَّا كَانَ الصِّيَامُ مِنْ أَفْضَلِ العَمَلِ الصَّالِحِ وَمِنْ أَكْرَمِ المَغْنَمِ؛ فَقَدْ سَنَّ الشَّرْعُ صِيَامَ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ: الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ: صِيَامُ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].

وَيَتَأَكَّدُ صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَهُوَ العَاشِرُ مِنْ مُحَرَّمٍ؛ لِأَنَّهُ يَوْمٌ مُعَظَّمٌ، فَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى صِيَامِهِ؛ لِنَيْلِ ثَوَابِهِ وَاغْتِنَامِهِ، فَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُوَراءَ فَقَالَ: «أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].

 وَيُسَنُّ صِيَامُ التَّاسِعِ مَعَهُ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]، وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِي سَبَبِ صَوْمِ تَاسُوعَاءَ مَعَ عَاشُورَاءَ: هُوَ مُخَالَفَةُ اليَهُودِ فِي اقْتِصَارِهِمْ عَلَى صَوْمِ العَاشِرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «صُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ وَخَالِفُوا الْيَهُودَ» [رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ]. 

وَلَمْ يَكُنْ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِدْعًا مِنَ الأَعْمَالِ، وَلَا افْتِرَاءً مِنَ الأَقْوَالِ، بَلْ صَامَهُ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم وَحَثَّ أُمَّتَهُ عَلَى صِيَامِهِ، وَصَامَهُ مُوسَى عليه السلام وَقَوْمُهُ مِنْ قَبْلُ، وَكَانَتِ العَرَبُ تَصُومُهُ فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَلَهُ مَنْزِلَةٌ عَظِيمَةٌ وَحُرْمَةٌ قَدِيمَةٌ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ قَالَ: «مَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].

وَالحِكْمَةُ مِنْ صِيَامِهِ: أَنَّهُ اليَوْمُ الَّذِي نَجَّى اللهُ فِيهِ مُوسَى عليه السلام وَقَوْمَهُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟ فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ, وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ, فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية

الحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ أَبَدًا، وَلَهُ الشُّكْرُ وَالمِنَّةُ وَالفَضْلُ دَائِماً سَرْمَدًا، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَيْسَ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَلَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَعْظِمْ بِهِ عَبْدًا وَسَيِّدًا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؛ مَا رَاحَ عَبْدٌ فِي طَاعَةِ اللهِ أَوْ غَدَا.

أَمَّا بَعْدُ:

 فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَتِهِ بِمَا رَزَقَكُمْ.

أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ:

 إِنَّكُمْ فِي مَوْسِمٍ عَظِيمٍ، وَمَغْنَمٍ لِلخَيْرَاتِ كَرِيمٍ، فَاغْتَنِمُوا أَيَّامَهُ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنَ المَتْجَرِ الرَّابِحِ، فَتَقْوَى اللهِ هِيَ العُرْوَةُ الوُثْقَى، وَالأَكْرَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْكُمْ هُوَ الأَتْقَى، وَعَلَى المَرْءِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى فَرَائِضِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا، وَيَكُفَّ عَنْ مَحَارِمِهِ لِيَنَالَ الْمَرَاتِبَ العُلَى، وَيَحْفَظَ نَفْسَهُ وَلِسَانَهُ عَنِ المَثَالِبِ وَالْمَعَايِبِ، وَيَعْرِفَ لِأَهْلِ الفَضْلِ فَضْلَهُمْ، وَيُقَدِّرَ لِذَوِي الْإِحْسَانِ إِحْسَانَهُمْ، وَأَلَّا يُطْلِقَ لِلِّسَانِ الْعَنَانَ: يَسُبُّ مَنْ يَشَاءُ سَبَّهُ، وَيَذُمُّ مَنْ يُرِيدُ ذَمَّهُ، أَلَا وَإِنَّ أَعْظَمَ مَنْ يَجِبُ لَهُمُ الحَقُّ عَلَيْنَا - بَعْدَ اللهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ عَلَيْهُمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الصَّحَابَةُ الكِرَامُ رِجَالًا وَنِسَاءً، الَّذِينَ بَذَلُوا النَّفْسَ وَالنَّفِيسَ، وَاسْتَرْخَصُوا أَرْوَاحَهُمْ وَكُلَّ غَالٍ وَرَخِيصٍ؛ لِلذَّبِّ عَنْ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم وَالدِّفَاعِ عَنْ حِيَاضِ دِينِهِمْ، فَضَرَبُوا أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ فِي التَّضْحِيَةِ وَالْفِدَاءِ، وَسَطَّرُوا أَنْصَعَ الصَّفَحَاتِ فِي الْبَذْلِ وَالعَطَاءِ، حَتَّى ازْدَانَ وَجْهُ التَّارِيخِ بِتَضْحِيَاتِهِمْ، وَرُصِّعَ تَاجُ الزَّمَانِ بِبُطُولَاتِهِمْ، وَأَبْلَغُوا الدِّينَ إِلَى أَصْقَاعِ المَعْمُورَةِ، وَآثَارُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ، فَكَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتِ لِلنَّاسِ، بِالعِلْمِ وَالعَمَلِ وَالدَّعْوَةِ وَشِدَّةِ البَأْسِ، وَهُمْ أَصْدَقُ النَّاسِ لِسَاناً، وَأَوْضَحُهُمْ بُرْهَانًا وَبَيَانًا، وَأَنْقَاهُمْ نُفُوسًا وَأَتْقَاهُمْ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهُمْ عِلْمًا وَفَهْمًا...

 رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ، فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ». وَهُمْ خَيْرُ النَّاسِ - بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ - عَلَى الإِطْلَاقِ، وَلَا يَجْحَدُ فَضْلَهُمْ إِلَّا ذُو شِقَاقٍ وَنِفَاقٍ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].

 وَلِذَا كَانَ حُبُّ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنَ الدِّينِ وَالإِيمَانِ، وَبُغْضُهُمْ مِنَ النِّفَاقِ وَالطُّغْيَانِ؛ قَالَ الإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: «وَحُبُّهُمْ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ، وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَطُغْيَانٌ». وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ سَبِّهِمْ وَانْتِقَاصِهِمْ، وَعَنِ الطَّعْنِ فِيهِمْ وَازْدِرَائِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ صَحَابَةُ نَبِيِّهِ وَوُزَرَاؤُهُ، وَحَمَلَةُ دِينِهِ وَأَصْفِيَاؤُهُ، (فَإِنَّ لُحُومَهُمْ مَسْمُومَةٌ، وَعَادَةُ اللهِ فِي هَتْكِ مُنْتَقِصِهِمْ مَعْلُومَةٌ)

 عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].

 قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: «وَسَبَبُ تَفْضِيلِ نَفَقَتِهِمْ أَنَّهَا كَانَتْ فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ وَضِيقِ الْحَالِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّ إِنْفَاقَهُمْ كَانَ فِي نُصْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَحِمَايَتِهِ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ بَعْدَهُ، وَكَذَا جِهَادُهُمْ وَسَائِرُ طَاعَاتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً) [الحديد:10]. 

هَذَا كُلُّهُ مَعَ مَا كَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الشَّفَقَةِ وَالتَّوَدُّدِ وَالْخُشُوعِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْإِيثَارِ وَالْجِهَادِ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ. وَفَضِيلَةُ الصُّحْبَةِ وَلَوْ لَحْظَةً لَا يُوَازِيهَا عَمَلٌ، وَلَا تُنَالُ دَرَجَتُهَا بِشَيْءٍ».

 وَالوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ - عِبَادَ اللهِ-أَنْ يَتَرَضَّى عَنِ الصَّحَابَةِ وَيُدَافِعَ عَنْهُمْ وَيُوَالِيَهُمْ، وَأَلَّا يُبْغِضَهُمْ وَلَا يُعَادِيَهُمْ، وَأَنْ يَذْكُرَ مَحَاسِنَهُمْ وَيُحِبَّهُمْ، وَأَلَّا يَطْعَنَ فِيهِمْ أَوْ يَسُبَّهُمْ، وَهَذَا شَأْنُ المُؤْمِنِينَ المُتَّقِينَ، الَّذِينَ يَعْرِفُونَ لِأَهْلِ الفَضْلِ فَضْلَهُمْ، وَيَرُدُّونَ الجَمِيلَ وَالإِحْسَانَ لِغَيْرِهِمْ، قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) [الحشر:10].

 وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» [رَوَاهُ الطَّبَـرَانِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ].

فَاللَّهَ اللهَ فِي صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ، وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ سَبِّهِمْ وَالطَّعْنِ فِيهِمْ؛ فَإِنَّهُ يُغْضِبُ الرَّبَّ جَلَّ فِي عُلَاهُ، وَخَاصَّةً - عِبَادَ اللهِ - أَنَّنَا فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ؛ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِ أَنْفُسَكُمْ، وَاعْمَلُوا فِيهِ بِمَا يُرْضِي رَبَّـكُمْ، وَأَقِيمُوا فَرَائِضَهُ، وَاجْتَنَبُوا مَحَارِمَهُ؛ تَسْعَدُوا فِي الدُّنْيَا، وَتَفْلَحُوا فِي الآخِرَةِ.

  اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الأَرْبَعَةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَالأَئِمَّةِ الحُنَفَاءِ المَهْدِيِّينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ والْمُشْرِكِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ المُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ  ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ قَرِيبٌ سَمِيعٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ

عن الكاتب

عبدالغفار العماوي

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

موقع الشيخ عبدالغفار العماوي