الخطبة الأولى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى، وَمُلاَزَمَةَ صِرَاطِهِ المُسْتَقِيمِ، وَالمُدَاوَمَةَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالحَذَرَ مِنَ الوُقُوعِ فِي المَعَاصِي وَالمُحَرَّمَاتِ دَلِيلُ صِدْقِ الإِيمَانِ، وَثَمَرَةُ الهِدَايَةِ، وَسَبَبُ حُصُولِ الخَيرَاتِ، وَتَنَزُّلِ الرَّحَمَاتِ، وَالوُصُولِ إِلَى أَعْلَى المقَامَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَتَحْقِيقِ الكَرَامَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
وَبِهِ يَحْصُلُ اليَقِينُ، وَمَرْضَاةُ رَبِّ العَالَمِينَ، وَيَجِدُ المُسْلِمُ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ، وَطُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ، وَرَاحَةَ البَالِ، وَبَرْدَ اليَقِينِ؛ (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الزمر:22]،(أَوَمَنْ كَانَ مَيتًا فَأَحْيَينَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:122].
إِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى دِينِ اللهِ هُوَ الانْتِصَارُ العَظِيمُ فِي مَعْرَكَةِ الطَّاعَاتِ وَالأَهْوَاءِ، وَالرَّغَبَاتِ وَالشَّهَوَاتِ؛ وَهُوَ الضَّمَانُ -بِإِذْنِ اللهِ- للحُصُولِ عَلَى الجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ؛ وَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الثَّابِتُونَ المُسْتَقِيمُونَ أَنْ تَتَنَزَّلَ عَلَيهِم المَلاَئِكَةُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، لِتَطْرُدَ عَنْهُمُ الخَوفَ والحَزَنَ، وَتُبَشِّرَهُم بالجَنَّةِ (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *نَحْنُ أَولِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت:30-32].قَالَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي الله عنه-: لَمْ يُشْرِكُوا باللهِ شَيئًا، ولَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِلَهٍ غَيرِهِ، ثُمَّ اسْتَقَامُوا عَلَى أَنَّ اللهَ رَبُّهُم.
مَا أَجْمَلَ الطَّاعَة إِذَا أُتْبِعَتْ بِالطَّاعَةِ!
عووَمَا أَعْظَمَ الحَسَنَة وَهِي تَنْضمُّ إِلَى الحَسَنَةِ لِتُكَوِّنَ سِلْسِلَةً مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ التِي تَرْفَعُ العَبْدَ إِلَى الدَّرَجَاتِ العُلَى، وَتُنْجِيهِ مِنَ النَّارِ بِرَحْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ!
وَلَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم فِي صَلاَتِهِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ" رواه النسائيُ وَأحمدُ والترمذيُّ وسندُهُ قويٌّ.
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم ا لمُدَاوَمَةُ عَلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَو كَانَتْ قَلِيلَةً؛ سُئِلَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْتَصُّ مِنَ الأَيَّامِ شَيئًا؟ قَالَتْ: لاَ، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُطِيقُ؟! متفقٌ عليه.
وَيَقُولُ صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ" متفقٌ عليه.
رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سُفْيَانِ بنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ قَولاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيرَكَ، قالَ : ((قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ)).
عبادَ اللهِ: وَمَدَارُ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ وَالاسْتِقَامَةِ عَلَى مَنْهَجِهِ وَطَاعَتِهِ عَلَى أَمْرَينِ عَظِيمَينِ: حِفْظُ القَلْبِ، وَحِفْظُ اللِّسَانِ؛ فَمَتَى اسْتَقَامَا اسْتَقَامَتْ سَائِرُ الأَعْضَاءِ، وصَلَحَ الإِنْسَانُ في سُلُوكِهِ وحَرَكَاتِهِ وسَكَنَاتِهِ، ومَتَى اعْوَجَّا وَفَسَدَا فَسَدَ الإِنْسَانُ، وضَلَّتْ أَعْضَاؤُهُ جَمِيعًا.وَفِي الصَّحِيحَينِ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ".
أقولُ مَا تسمعونَ، وَأستغفرُ اللهَ لِي وَلكُمْ وَلجميعِ المسلمينَ مِنْ كلِّ ذنبٍ، فاستغفرُوهُ إنَّهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
اَلْحَمْد لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهْ وَرَسُولُهُ ، صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَمَّا بُعْد
أَيُّهَا اَلْمُسْلِمُونَ ، مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ تُتَابِعُ مَوَاسِمَ اَلْخَيْرَاتِ ، وَمُضَاعَفَةُ اَلْحَسَنَاتِ ، فَالْمُؤْمِنُ يَتَقَلَّبُ فِي سَاعَاتِ عُمْرِهِ بَيْنَ أَنْوَاعِ اَلْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ ، فَلَا يَمْضِي مِنْ عُمْرِهِ سَاعَةً إِلَّا وَلِلَّهِ فِيهَا وَظِيفَةٌ مِنْ وَظَائِفِ اَلطَّاعَاتِ ، وَمَا أَنْ يُفَرِّغَ مِنْ عِبَادَةٍ إِلَّا وَيَشْرَعُ فِي عِبَادَةٍ أُخْرَى ، وَلَمْ يَجْعَلْ اَللَّهُ حَدًّا لِطَاعَةِ اَلْعَبْدِ إِلَّا اِنْتِهَاءَ عُمْرِهِ وَانْقِضَاءِ أَجْلِهِ يَقُولُ جُلٌّ وَعَلَا : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } ، وَهَذِهِ هِيَ حَقِيقَةُ اَلثَّبَاتِ عَلَى اَلدِّينِ وَالِاسْتِقَامَةِ اَلَّتِي وَعَدَ اَللَّهُ أَصْحَابَهَا بِالنَّجَاةِ، وَالْفَوْزُ بِعَالِي اَلدَّرَجَاتِ .
وَمِمَّا مِنْ اَللَّهِ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ بَعْد اِنْقِضَاءِ شَهْرِ اَلصِّيَامِ وَالْقِيَامِ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ عَظِيمٌ اَلْأَجْرِ وَالثَّوَابِ صِيَامَ سِتِّ أَيَّامِ مِنْ شَوَّالِ اَلَّتِي ثَبَتَ فِي فَضَائِلِهَا اَلْعَدِيدَ مِنْ اَلْأَحَادِيثِ مِنْهَا مَا رواهُ الإمامُ مسلمٌ مِنْ حديثِ أبِي أيوبَ الأنصاريِّ رضيَ اللهُ عنْهُ أنَّ النبيَّ - صلَّى اللهُ عليْهِ وَسلَّمَ- قالَ: (مَنْ صامَ رمضانَ ثمَّ أتبعَهُ ستًا مِنْ شوالٍ كانَ كصيامِ الدهرِ)
ثمَّ اعلمُوا ـ رحمَكُمُ اللهُ ـ أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمرٍ بدأَ فيهِ بنفسِهِ فقالَ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:65].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ والْمُسْلِمِينَ وَأَذِّلَ الشِّرْكَ والْمُشْرِكِينَ وَدَمِّرْ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ الْمَهْمُومِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ الْمَكْرُوبِينَ، وَاقْضِ الدَّيْنَ عَنِ الْمَدِينِينَ، وَاشْفِ مَرْضَانَا وَمَرْضَى الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ
اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذُنُوبَنَا، وَاسْتُرْ عُيُوبَنَا، وَيَسِّرْ أُمُورَنَا، وَبَلِّغْنَا فِيمَا يُرْضِيكَ آمَالَنَا، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا، وَارْحَمْهُم كَمَا رَبَّوْنَا صِغَارًا،
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.