قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ
الْخُطْبَة الأُوْلَى :
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [ آل عِمْرَان : 102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النِّسَاء :1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الْأَحْزَاب :70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسُلِّم ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
عِبَاد اللَّه : فِي الْقُرْآن الْكَرِيم تَسْلِيَة لِلْمُؤْمِن مِمَّا يُصَاب بِه فِي هَذِه الدُّنْيَا مَن أَحْدَاث ، وُفِّي الْقُرْآن كَلَام رَبّ الْعَالَمِين تَحْصِين لَعُقِل الْمُؤْمِن وَتَثْبِيت لِقَلْبِه . (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلناهُ تَرتيلًا) القُرآنُ كُلُّهُ شِفَاءٌ ورَحْمَةٌ وذِكرى، وهُدىً ونُورٌ وبُشْرَى؛ (وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا) [الْإِسْرَاء : 82]..
عِبَاد اللَّه : مشهدٌ قاتمٌ، وحادثٌ أليمٌ، تتقطّعُ لَه القلوبُ كمداً وحسرةً.
شُقَّتِ الأرضُ أخاديدا، ومُلئتْ وَقوداً، وأُلهبتْ نيراناً، وَالْمُؤْمِنُون يَقِفُون صفوفاً، كلٌ ينتظرُ دورَه ليُلقَى فِي الْأُخْدُود ، فيشتعلُ الجسدُ ناراً، ويستحيلُ اللحمُ والعظمُ رماداً.
هَذَا شيخٌ يرجُف، وتلك امرأةٌ تَرْتَعِد ، وذاك طفلٌ يَصْرُخ ، وهناك رجلٌ مقهورٌ لَيْس بيدِه حيلةٌ ليرفعَ العذابَ عَن نَفْسَه وَعَمَن حولَه.
والطغاةُ الجبابرةُ قائمون عَلَى الْأُخْدُود ، يَشْهَدُون تلكَ الْمُشَاهَد ، وَيَسْتَمْتِعُون بتلكَ الْآلَام ، وَكَأَنِّي بِهِم يَتَبَاْدَلُون الضَحَكَات بِلَا رحمةٍ ولا شَفَقَة ، قَد قِسْت قلوبُهم فَصَارَت صخورا، فَهُم فِي سُكْرِ العربدةِ يَعْمَهُون .
أَعُوذ بِاَللَّه مَن الشَّيْطَان الرَّجِيم بِسْم اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)
وجاء في الحديث النبوي مزيد بيان وتوضيح لهذه القصة وتفاصيلها ، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ صُهَيْبٍ رَضيَ اللهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ، قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ، فَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ، حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ، إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ، فَجِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ، فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمِ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمِ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ".
[صحيح مسلم - 3005]
ذلكم هُو خبرُ أصحابِ الْأُخْدُود ، الَّذِين رَأَوْا جموعاً ءامنت بِاَللَّه الْعَزِيز الْحَمِيد ، فَمَا كَان مَن ملكِهمُ الْجَبَّار ، إلَّا أن خدَّ لَهُم الأخاديدَ، وأضرمَ فِيهَا النِّيرَان ، وَقَال لجنوده: (مَن لَمْ يَرْجِعْ عَن دِينِهِ فأَحْمُوهُ فِيهَا). ولكنّ تِلْك الحيلةَ لَم تنطلِ عَلَى الفئةِ الصادقةِ، فصمدوا عَلَى طريقِ الْإِيمَان ، وَثَبَتُوا فِي سبيلِ الْحَقّ ، فَلَم يزعزعْهم التَّهْدِيد ، وَلَمّ يهزَّهم التَّخْوِيف ، حَتَّى قدّموا نفوسَهم رخيصةً فِي سَبِيل اللَّه.
عِبَاد اللَّه : إن الإيمانَ منزلةٌ عَالِيَة ، ورتبةٌ رَفِيعَة ، مَن أَرَاد أن يَصِل إِلَيْهَا فَلا بُد أن تعترضَه الفتنُ فيتجاوزَها، وتواجهَه العقباتُ فيقتحمَها، وينالَ نصيبَه مَن المحنِ فينجحَ فِي اختباراتها. يَقُوْل اللَّه سُبْحَانَه : (الْم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).
حِين آمَن الْمُؤْمِنُون فِي قصةِ الأخدودِ تَحْت بطشِ الملكِ الْجَبَّار ، كانوا يُوقِنُون بِأَنّ العقابَ قَادِم ، والبطشَ آتٍ لا مَحَالَة . لَكِنَّهُم اخْتَارُوا الطريقَ بوعيٍ، وسلكوه بصدقٍ وَإِيمَان .
إيمانٌ بِأَنّ الدُّنْيَا فَانِيَة ، وَأَن الآخرةَ بَاقِيَة . إيمانٌ بِأَنّ العاقبةَ عِنْد اللَّه لِلْمُتَّقِين ، وَأَن العوضَ سيأتيهم مَن عندِ أَكْرَم الْأَكْرَمِين ، وَأَنَّه لا خيرَ فِي طاعةِ الْمُجْرِمِين .
وَحِين آمَنُوا بِذَلِك هَانَت الدُّنْيَا فِي أعينِهم، ورسَخَتِ الآخرةُ فِي قُلُوبهم ، وَأَيْقَنُوا أن رضوانَ اللَّه أَغْلَى مَن حياتِهم. لَقَد ضحُّوا بكلِّ شيءٍ مَن أَجَل سلوكِ طَرِيق الْحَقّ ، وَقَدَّمُوا نفوسَهم سلعةً يَشْتَرِيهَا اللَّه تَعَالَى، فربحوا البيعَ، وفازوا بأعظمِ الثَّمَن (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
ولا يغرنَّكم ذَلِك المشهدُ القاتم، مشهدُ تَحَرُّقِ الْأَجْسَاد ، وتَقَطَّعِ الْأَشْلَاء ، فَإِنَّنَا مَا نَرَى فِي دُنْيَانَا إلَّا جزءاً يسيراً مَن المشهدِ لا تكتملُ بِه الصُّورَة . وَذَلِك أن هَؤُلَاء الَّذِين نحزنُ عَلَيْهِم يَرَوْن مَا لا نَرَى، وينعمون بِمَا لا نَشْعُر .
(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) ۞ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)
آهٍ لَو اكتملت لَنَا الصُّورَة ، وَرَأَيْنَا كلَّ الْمَشْهَد .
إن الشَّهِيد عِنْدَمَا يقتلُ فِي سَبِيل اللَّه، يذوقُ مَن النَّعِيم مَا لا نتصوّرُه ولا نتخيّلُه، حَتَّى إنَّه بَعْد دخولِ الجنةِ والعيشِ فِي نعيمِها الْعَظِيم ، يَتَمَنَّى أن يرجعَ إِلَى الدُّنْيَا.
تَعْلَمُون لِمَاذَا ؟
لا ليذوقَ متاعَها الْفَانِي، وَإِنَّمَا ليذوقَ لذةَ القتلِ فِي سَبِيل اللَّه مرةً بَعْد مَرَّة . يَقُوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسُلِّم : (مَا أحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيا وَلِه مَا علَى الأرْضِ مِن شيءٍ إلَّا الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيا، فيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِما يَرَى مِنَ الكَرامَةِ).
وَأَمَّا الطرفُ الآَخَر ... تِلْك الطُّغْمَةُ الفاجرةُ، الَّذِين ظَنُّوا أَنَّهُم انْتَصَرُوا فِي الْمَعْرَكَة ، فتعالت ضَحَكَاتُهم، ورقصوا عَلَى مناظرِ الدماءِ والأشلاء. أُولَئِك مَا غَفِلَ اللهُ عَن إجرامِهم، ولا نسيَ طغيانَهم، ولكنه يمهلُهم لِيَزْدَادُوا إثْمًا عَلَى إثْم ، فيذوقوا العذابَ ضعفاً عَلَى ضَعُف .
نَعَم لَقَد كَسَبُوا جولةً مَن الْمَعْرَكَة ، وَلَكِن بقيَ فِي المعركةِ جولاتٌ وجولاتٌ، يَقِفُون فِيهَا بَيْن يَدَي اللَّه، فيذيقهم مَن البأسِ والبطشِ مَا لا يُطِيقُون ولا يَحْتَمِلُون .
نَعَم لَقَد عذّبوا الْمُؤْمِنِين بِالْحَرْق وَالْقَصْف فِي الدُّنْيَا، ولكنه أَلَم مَحْدُود لَم يستغرقْ إلَّا دقائقَ معدودةً حَتَّى فَاضَت أرواحُهم الطَّاهِرَة . أَمَّا الطغاةُ فَيَنْتَظِرُهُم حرقٌ لا يُحَدُّ بوقتٍ ولا بِزَمَن ، حريقٌ خالدٌ يَمْكُثُون فِيْه أَبَدًا، لا يُفتّرُ عَنْهُم ولا يخففُ عَنْهُم يوماً مَن الْعَذَاب .
تِلْك هِي نِهَايَة الْمَعْرَكَة ، فَمَن هُو الْفَائِز بِاَللَّه عَلَيْكُم ؟! (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)
(ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) لَقَد فَاز الْمُؤْمِنُون فِي النِّهَايَة ، فَازُوا بالنجاحِ فِي امتحانِ الصِّدْق ، والثباتِ عَلَى الْإِيمَان فِي الدُّنْيَا، وفازوا بجناتِ النعيمِ فِي الْآخِرَة .
وَأَمَّا فوزُ الطغاةِ فِي الدُّنْيَا، فَهُو فوزٌ خادعٌ، وانتصارٌ زائفٌ، تعقُبُه خسارةُ الأبدِ، وعذابُ الْخُلُود . (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ)
وُفِّي آيَات أُخْرَى يَقُوْل سُبْحَانَه : (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ).
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتغفرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِروهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِه وَصَحْبِهِ أَجْمَعينَ.
أَمَّا بَعْد : عِبَاد اللَّه : ومما نستلهمه مَن سُورَة الْبُرُوج مَن قَوْل اللَّه تَعَالَى : (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ):
أن الصراعَ صراعُ عَقِيدَة ، وَأَن المعركةَ معركةُ إيمانٍ وَكَفَر . فأممُ الكفرِ لا تنقِمُ عَلَى أَهْل الْإِيمَان إلَّا أَنَّهُم ءامنوا باللهِ العزيزِ الْحَمِيد .
فَلَيْس الصراعُ عَلَى مجردِ نزاعاتٍ جغرافية، أَو مصالحَ اقتصادية، وَإِنَّمَا هُو صراعٌ مَن أجلِ الْعَقِيدَة .. يَتْبَعُه صراعات الأَرْض وَالْمَال ..
تِلْك سنةٌ لأهلِ الْكُفْر مَاضِيَة ، وعادةٌ لَهُم جَارِيَة .
يَقُوْل سُبْحَانَه : (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا).. (ولن تَرْضَى عَنْك الْيَهُود ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتْبَع مِلَّتِهِم ).. هَذِه هِي غايةُ أممِ الْكُفْر ، أن يرتدَّ الْمُؤْمِنُون عَن إيمَانِهِم ، وَأَن يتخلَّوا عَن عقيدتِهم، وَأَن يُنَحَّوا عَن وحيِ رَبِّهِم .
فَإِن فَعَلُوا ذَلِك فَعِنْدَهَا ستصفو لَهُم نفوسُ أممِ الْكُفْر ، وسيكسَبُون رِضَاهُم ، وَلَكَنَّهُم سيخسرون مَا هُو أعظمُ مَن وَلَايَة اللَّه وَنَصْرُه ..
إنَّهَا حربٌ مستعرةٌ، ومعركةٌ مشتعلةٌ، فالفائزُ مَن اصطفَّ فِي صَفّ أَهْل الْإِيمَان ، والخاسرُ مَن تولَّى أهلَ الْكُفْر وَالنِّفَاق فخابَ مَع الْخَائِبِين .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ)
اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، مجريَ السَّحَاب ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، هازمَ الْأَحْزَاب ، اللَّهُمّ اهْزِمِ أَحْزَاب الْكُفْر ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ ، اللَّهُمَّ أَنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي غَزة وَفِلْسَطِين اليَمَن السُّودَان وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَسَائِرِ بِلَادِ المُسْلِمِينَ ، اللَّهُمّ كِنّ لَهُم مُؤَيِّدًا وَنَصِيرًا، وَظَهِيرًا وَمُعِينًا. ، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، رَبَّنَا أَفْرَغ عَلَيْهِم صَبْرًا، وَثَبَت أَقْدَامِهِم ، وَانْصُرْهُم عَلَى الْقَوْم الْكَافِرِين.
اللَّهُمَّ أَعَزَّ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَدَمِّرْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ الإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ بِسُوءٍ فَأَشْغِلْهُ فِي نَفْسِهِ وَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَى نَحْرِهِ، وَاجْعَلُهُ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
الَّلهُمَّ اجْعَلْنَا مِمنْ خَافَكَ وَاتَّقَاكَ وَاتَّبَعَ رِضَاكَ، اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ وَأَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلًا وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ وَلا تَجْعَلْهُ مُلْتَبِسًا عَلَيْنَا فَنَضِلَّ، اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَحْفَظَنَا بِحِفْظِكَ، وَأَنْ تَكْلَأَنَا بِرِعَايَتِكَ، وَأَنْ تَدْفَعَ عَنَّا الغَلَاءَ وَالوَبَاءَ وَالرِّبَا وَالزِّنَا وَالزَّلَازِلَ وَالمِحَنَ وَسُوءَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
(ربَّنا آتِنا فِي الدُّنيا حَسَنةً وُفِّي الآخِرَةِ حَسَنةً وقِنَا عذابَ النَّار)
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وِأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.