موقع الشيخ عبدالغفار العماوي

أدعو إلى الله على بصيرة

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

حسرات يوم القيامة (خطبة جمعة مكتوبة)


حسرات

أمَّا بعدُ: عبادَ اللهِ، إنَّ المتأملَ لحالنِا نحنُ المسلمينَ اليومَ، وحالِ زمانِنَا ومَا ظهرَ فيهِ منَ الآفاتِ والفتنِ، وما حصلَ فيهِ من انفتاحٍ كبيرٍ على الدنيَا وزُخرُفِها حتَّى ظنَّ أهلُهَا أنهُم قادرونَ عليهَا، أو مخلَّدونَ فيهَا، وقد قستْ منَّا القلوبُ، وتحجَّرتِ العيونُ، وهُجِرَ كِتابُ علّامِ الغيوبِ؛ بل قُرئَ والقلوبُ لاهيةٌ ساهيةٌ في لُججِ الدنيَا، وغفَلنَا ولم نشعُرْ أنَّنَا غفَلنَا وهذهِ لَعمرُ اللهِ أدهَى وأمرُّ فينَا.

إلَى اللهِ نشكو قسوةً في قلوبِنَا و في كلِّ يومٍ واعظُ الموتِ يندبُ

لهذا كلِّه كانَ لا بدَّ مِن الوقوفِ مَع بَعضِ مشاهدِ الحسرةِ في الآخرةِ لعلَّ النفوسَ تستيقظُ وتخشعُ وتذلُّ فتبادرُ إلى الحسنَى، فمَا هناكَ مِن أمرٍ هو أشدُّ دفعًا للنفوسِ إلى فعلِ الخيرِ من أمرِ الآخرةِ، والوقوفِ بينَ يديِ مَنْ له الأولَى والآخرةُ، فهيَّا يا عبادَ اللهِ إلى مشاهدَ منَ الحسرةِ أسألُ اللهَ أن لا نكونَ جميعاً من أهلِ الحسرةِ.

إنَّه يومُ الحسرةِ: وما أدراكَ ما يومُ الحسرةِ، يومٌ أنذرَ به وخوّفَ، وتوعدَ بهِ وهدّد، قالَ الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ إنذارٌ وإخبارٌ في تخويفٍ وترهيبٍ بيومِ الحسرةِ حينَ يُقضَى الأمرُ، يومَ يُجمَعُ الأولونَ والآخرونَ في موقفٍ واحدٍ، يسألونَ عن أعمالِهم. فمنْ آمنَ واتَّبع سعِدَ سعادةً لا يشقَى بعدَها أبدًا. ومن تمرَّدَ وعصى شقيَ شقاءً لا يسعدُ بعدَه أبدًا، وخَسِرَ نفسَهُ وأهلَهُ وتحسرَ وندِمَ ندامةً تتقطعُ منها القلوبُ وتتصدعُ منه الأفئدةُ أسفًا. وأيُّ حسرةٍ أعظمُ من فواتِ رضاءِ الله وجنتِه واستحقاقِ سخطهِ ونارِه على وجهٍ لا يمكنُ معه الرجوعُ ليُستأنف العملُ، ولا سبيلَ له إلى تغييرِ حالهِ ولا أملَ. وقدْ كان الحالُ في الدنيا أنَّهم كانوا في غفلةٍ عن هذا الأمرِ العظيمِ.

فمِنْ هذهِ الحسراتِ "أجارَكم اللهُ منَ الحسراتِ": الحسرةُ على أعمالٍ صالحةٍ: شابَتْها الشوائبُ وكدَّرَتْها مُبطِلاتُ الأعمالِ من رياءٍ وعُجبٍ ومنَّةٍ، فضاعتْ وصارَتْ هباءً منثورًا، في وقتٍ الإنسانُ فيهِ أشدُّ ما يكونُ إلى حسنةٍ واحدةٍ: ﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾

الحسرةُ على التفريطِ في طاعةِ الله: وتصرمِ العمرِ القصيرِ في اللهثِ وراءَ الدنيَا حلالِها وحرامِها، والاغترارِ بزيفِها معَ نسيانِ الآخرةِ وأهوالِها: ﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴾ ﴿ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾

الحسرةُ على التفريطِ في النفسِ والأهلِ: أن تقيَهم من عذابِ جهنَّمَ، يومَ تفقدُهم وتخسرُهم مع نفسِك بعدَ ما فتنتَ بهم، ذلك هوَ الخزيُ والخسارُ والحسرةُ والنارُ، حالُك: ﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15].

الحسرةُ على أعمالٍ صالحةٍ: كانَ الأملُ بعدَ اللهِ عليها، ولكنَّها ذهبتْ في ذلكَ اليومِ العصيبِ إلى من تعديتَ حدودَ اللهِ فيهم فظلمتَهم في مالٍ أو دمٍ أو عرضٍ، فكنتَ مفلساً حقًّا: ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ﴾ [طه: 111]. فيأخذُ هذا من حسناتِك وهذا من حسناتِك، ثم تفنَى الحسناتُ فيطرحُ عليكَ من سيئاتِ من ظلمتَهم ثم تطرحُ في النارِ.

حسرةُ جُلساءِ أهلِ السوءِ: يومَ انساقوا معهم يقودونَهم إلى الرذيلةِ، ويصدونَهم عن الفضيلةِ، إنها لحسرةٌ عظيمةٌ في يومِ الحسرةِ يعبِّرونَ عنها بعضَ الأيدِي يومَ لا ينفعُ عضُّ الأيدِي كما قالَ ربِّي: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴾ ﴿ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ﴾ ﴿ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾

ومن أعظمِ المشاهدِ حسرةٌ في يومِ القيامةِ يومَ يكفُرُ الظالمونَ بعضُهم ببعضٍ ويلعنُ بعضُهم بعضًا محتجِّينَ ومتبرئينَ فذلكَ قولُ الله: ﴿ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾

فيَا للحسرةِ والندمِ، الحسرةُ على أموالٍ جُمِعَتْ من وجوهِ الحرامِ: رباً ورشِوةٍ وغشٍّ وغصبٍ وسرقةٍ واحتيالٍ وغيرِها. فيا لله أيُّ حسرةٍ أكبرَ على امرئٍ يؤتيهِ اللهُ مالاً في الدنيَا، فيعملُ فيه بمعصيةِ اللهِ، فيرثُه غيرُه فيعملُ فيه بطاعةِ اللهِ، فيكونُ وزرُه عليهِ وأجرُه لغيرِه.

ويا لحسرةٍ وندامةٍ أولئكَ العاملينَ على نشرِ المفاسدِ سواءً عبرَ القنواتِ أو الصحفِ أو الإنترنت أو غيرِ ذلكَ من وسائلِ نشرِ هذهِ المفاسدِ يا حسرتَهم يومَ يأتونَ يومَ القيامةِ يحملونَ أوزارَهم وأوزاراً مع أوزارِهم،

أمَّا الحسرةُ الكبرَى فهيَ: عندَما يرى أهلُ النارِ أهلَ الجنةِ وقد فازُوا برضوانِ اللهِ والنعيمِ المقيمِ وهم يقولونَ:﴿ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ﴾﴿ قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾

وحسرةٌ أعظمُ: يومَ ينادِي أهلُ النارِ أهلَ الجنةِ: ﴿ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ .

وحسرةٌ أجلُّ: حينَ ينادِي أهلُ النارِ مالكاً خازنَ النارِ: ﴿ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾

فيا حسرةَ العاصي وندامتَه يومَ يموتُ على عصيانِه، يا حسرتَه يومَ يرَى مقعدَه، يا حسرَتَه يومَ يأخذُ كتابَه بشمالِه ويرَى غيرَه يأخذُ كتابَه بيمينِه، يا حسرتَه يومَ يُساقُ مع المجرمينَ إلى النارِ ويرى المؤمنينَ يساقونَ إلى الجنةِ، فواللهِ ليتحسَّرُ ويتحسَّرُ على ما فرَّطَ، ليتحسَّرَ على كلِّ صلاةٍ أضاعَها، ليتحسَّرَ على كلِّ يومٍ لم يصمْه، ليتحسَّر على زكاةٍ منعَها، ليتحسَّر على كلِّ ساعةٍ أضاعَها لم يذكرِ اللهَ فيهَا.

أقولُ قولِي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكمْ ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروهُ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.


الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيهِ كما يحبُّ ربُّنا ويرضَى، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بعدُ: عبادَ اللهِ وبعدَ هذا البيانِ من كتابِ الرحمنِ عن صورِ الخِزْيِ والحسرةِ والخسرانِ. فَهَلْ آنَ لنا أنْ نعدَّ لهذا الموقفِ العظيمِ عُدَّتَه؟ ونعملَ جاهدينَ على الخلاصِ من صفاتِ أهلِ هذه المواقفِ المخزيةِ. هلْ آنَ لنا أنْ نُخلصَ العبادةَ للهِ وحدَه، ونجردَ المتابعةَ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم. هلْ آنَ لنَا أن نحذرَ من كلِّ ناعقٍ ملبسٍ خائنٍ يمكرُ في الليلِ والنهارِ قبلَ أن تقولَ نفسٌ يا حسرتَاه ولا مناةَ حينَ مناص... هلْ آنَ الأوانُ للمرأةِ المسكينةِ في زمانِنا اليوم أن تنتبهَ لهذهِ المواقفِ فتتبرَّأَ في دنياها اليومَ من كلِّ ناعقٍ لها باسمِ الحرِّيةِ.

هلْ آنَ الأوانُ لمن أعطوا قيادَهم لجلساءِ السوءِ،ومن هم دعاةٌ على أبوابِ جهنمَ يسوقونَهم إلى الرذيلةِ ويفتحونَ قلوبَهم للمكرِ والألاعيبِ والصدِّ عن الفضيلةِ. هلْ آن لهُم أن ينتهوا ويقطعوا صلَتَهم بهم وطاعتَهم لهم ما دامُوا في زمنٍ من مهلةٍ وإمكانٍ، وإن لم يقطعُوها في الدنيا، فهيَ لا شكَّ منقطعةٌ يومَ القيامةِ وستنقلبُ عداوةً وخصاماً وحسرةً:﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ هل آنَ الأوانُ للعصاةِ عموماً وللمجاهرينَ بالمعاصي. هل آنَ للجميعِ هل آنَ لهم أن يعلنوها توبةً عاجلةً نصوحاً قبلَ المماتِ وقبلَ يومِ الحسراتِ ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾

هذا وصلُّوا وسلِّموا على الرحمةِ المهداةِ والنّعمةِ المسداةِ رسولِ اللهِ محمّد بنِ عبدِ الله.اللهمّ صلِّ وسلِّم وباركْ على عبدِك ورسولِك محمّد، وعلى آلِه الطاهرينَ وصحابتِه الميامين وأزواجِه أمّهاتِ المؤمنينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.

حسرات يوم القيامة (خطبة جمعة مكتوبة)


عن الكاتب

عبدالغفار العماوي

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

موقع الشيخ عبدالغفار العماوي